استقراء الصامت والصائت في النص المسرحي "عزف اليمام" لياسر مدخلي

صباح الأنباري*
انطلاقا من العنونة "عزف اليمام" وقبل الدخول الى عالم النص نشير أولاً الى أن اليمام هو ما يعرف بالحمام البري

 مؤنثه : يمامة، وغناؤه هديل، وقد قرن المؤلف العزف به لكونه رمزا بديلا لشخصية تتشابه معه رمزيا فيحل بديلا عنها. أحداث النص تبدو مرتبطة مع ما حدث أو يحدث حول المؤلف، وادراكه لها، ومن ثم كتابتها، كما جاء ذلك في المقدمة المقتضبة التي وضعها ياسر مدخلي لنصه مذكّراً أن الوقائع امتزجت في خياله، فرأى ان من الضرورة بمكان البوح بها أو تدوينها على الورق، ومن ثم تقديمها من على خشبة المسرح.
إذا استبعدنا شخصية (الكاتب) داخل النص، والذي كان دوره شكليا فحسب، فإن المسرحية اشتغلت على شخصيتين رئيستين (الأول والثاني) اتصفتا بالضعف ـ كما جاء في ملاحظة المؤلف ـ على الرغم من مظاهر القوة التي اتصفت بها شخصية الثاني. وان الصراع بينهما أخذ ، استنادا عليه، شكلا هو أقرب الى الهدوء منه الى العنف الدرامي. أما المكان فلم يكن له محددات دقيقة. وما ذكره المؤلف في أول النص (جوار أنقاض..ربما لميدان وسط العاصمة) لم نتلمس آثاره في سياق الدراما إلا ـــ وهذا استثناء افتراضي ــــــ في الرقصة الافتتاحية، فالمشاهد التي ظهر فيها (الكاتب) جرت كلها في مكتبه. كما جرى المشهد الصامت الأول في مقهى شعبي. وجرت المشاهد الأخرى داخل غرف التحقيق في زمن هو (زمن الحرب على الآخر).
    وبعيدا عن الشخوص ومحددات الزمان والمكان، فإن النص ابتدأ بتمهيد هو في حقيقة الأمر ملاحظة استباقية لفعل دراماتيكي راقص صورت رموزه التعبيرية مدى التراجع، والخذلان العربي الذي وصلنا اليه بعد زوال ايام العز، والكرامة، والكبرياء محددا إياه بمرحلتين تاريخيتين هما (ما قبل) و(ما بعد) في إشارة الى الماضي وانهياراته، والحاضر وتداعياته مقطوعا بأصوات انفجارات، وهدير طائرات، وزعيق إذاعات ومتبوعاً بإعلان (الثاني) عن نواياه وأغراضه التي تبدو من خلال قهقهته حقيقتها الديماغوغية. 
المسرحية تضمنت ثلاثة مشاهد صامتة كتبت باختصار شديد، وتركت مهمة الدخول في تفاصيلها الى من يتصدى لإخراجها على الرغم من رغبة المؤلف الملحة في نشرها سواء من اجل قراءتها رقمياً على صفحات المواقع الالكترونية، أو ورقياً من على صفحات المجلات أو الكتب. لقد تحول المشهد المسرحي الصامت جراء الاختصار، وعدم الدخول في التفاصيل الحركية والايمائية المهمة، الى مجرد ملاحظة تكميلية سبقت المشهد الصائت، وأنابت عن بعض أحداثه الاستباقية. لنقرأ هذا المشهد أولاً:    
"مشهد صامت
مؤثر موسيقي يصعد مع ظهور الإضاءة على زاوية في مقهى شعبي ،يحتسي فيه الأول كوباً من القهوة. يدخل الثاني الى وسط المسرح حيث الإضاءة الحمراء ينظر للأول يقوم باعتقاله يتحول الجو العام الى الأحمر لاختفاء الأخضر تدريجيا."
من المشهد نستنتج ما يأتي:
أولاً. تضمنه على حركتين دراماتيكيتين: الأولى احتساء القهوة في المقهى، والثانية دخول الشخصية الثانية، واعتقالها للشخصية الأولى. 
ثانياً. استخدامه للمؤثر الصوتي المتزامن مع المؤثر الضوئي بطريقة رمزية ايحائية معبرة عن جوهر الحركتين المشار اليهما في أولاً. 
ثالثا. ليس في المشهد ما يكفي من الحركات والايماءات التي تساعد القاريء على استقراء أبعاد الشخصيتين، واختلاف غرضيما.
رابعا. لم تكتمل عناصر المشهد الدراماتيكي الصامت باشتغاله على التركيز والاختزال لأن ثمة ما هو ضروري قد اختفى من المشهد تماما. 
أما المشهد الثاني فجاء اكثر اختصارا واشد اختزالا من سابقه فقد ورد على النحو التالي:
"مشهد صامت
التحقيق مع المعتقل بطريقة غير انسانية".
ومنه نستنتج الآتي:
أولاً. لم تكن شخصية الأول محددة بصفة تشي بجوانيته، أو طبيعته، أو سلوكه الاجتماعي، وكذلك شخصية الثاني.
ثانيا. لم يتضح سبب التحقيق، ولا لماذا انصب (بطريقة غير انسانية) على هذه الشخصية دون سواها من رواد المقهى.
ثالثاً. احتساء القهوة في المقهى يحدد بشكل ما هوية المقهى الوطنية، فثمة مقاهٍ لا تقدم غير الشاي الأسود ،كما هو الحال في مقاهي العراق على سبيل المثال لا الحصر. 
رابعا. القطع بالإظلام جاء معبراً عن تجزئة وتشظي الحدث، والانتقال السريع من مشهد الى آخر، والى شيوع الظلام بين اجواء المسرحية، والى اختتام المشهد والبدء بما بعده.
عليه يكوِّن الحدث ما بعد المشهد الصامت الثاني مشهداً صائتاً مستقلاً مقتضباً هو الآخر، وداعماً للمشهد السابق الصامت، وفيه تعلن الشخصية عن مللها من انتظار ما ستصرح أو تعترف به الشخصية الأخرى (المعتقل). 
 لقد استثمرت المسرحية صمت الرجل المعتقل،  ولكنها لم تركز عليه بما يكفي لجر الانتباه الى قوة فعل الصمت، ومداه الأنساني، وجوانية معناه. ولعل من الأهمية بمكان الإشارة الى مسرحية الكاتب المسرحي الراحل محي الدين زنكنه (تكلم يا حجر) وكيف استثمرت الصمت لصالح شخصية المعتقل من بدء المسرحية وحتى نهايتها. إن ما يؤاخذ على صمت الشخصية في مسرحية ياسر مدخلي، هو كسرها حاجز الصمت بالنطق ولكن ليس في الموقف المطلوب، والملائم لقضية المعتقل. لنقرأ هذا الحوار، ونتبين حقيقة ذلك الموقف: 
"الثاني : لماذا تبكي؟ عجبي صمت وبكاء انك تذكرني بأيام غابرة عصور قد اندثرت تحمل ذكريات مؤلمة، برد وعري، حر وجوع، قهر واذلال ودموع، يكفي يا هذا انني اكرهك أيها التمثال أكرهك.. أكرهك.(يرفع عن وجه الأول الغطاء) إنك تؤسر نفسك في زمن الحرية، وهذه تعد جريمة فأنت تقمع نفسك وتتجاهلها، لقد عشت حرا منذ صغري آكل وانام أخرج مع أصدقائي فتيانا كانو أو .."
الأول : أو ماذا؟
الثاني : أخيرا نطقت".
لقد جاء القطع مؤكدا على هيمنة فكرة الجنس الآخر الغائب (الفتيات) على الشخصية، حد أنها أخرجته من الصمت الى النطق ولا نعرف لماذا ،لكن السياق يؤكد وجود ضعف ما في تركيبة الشخصية، وإن القطع لم يعزز حالتها الفكرية في مثل هذا الموقف الانعطافي الكبير. المشهد يسترسل بسرد قصة الثاني، والأجواء التي أحاطته بالجور، والظلم، والاستبداد، والاستعباد، والاضطهاد، والترهيب، والتعذيب، والنطح والذبح والموت الزؤام وكل ما هو محرم عليه وممنوع منه ـ وينتهي كالعادة باظلام تام ليأتي الحدث اللاحق صامتا ،ولكن من دون أن يشير المؤلف الى ذلك. الحدث الجديد جاء مختصرا أيضا وعلى النحو التالي:
"مشهد بطيء لسقوط تمثال في وسط المسرح يضيء بعده مشهد الكاتب مرة أخرى كومضة سريعة توضح انفعالاته".
إن الدمج بين حالتي سقوط التمثال، وانفعالات (الكاتب) لم تمنح المتلقي التوضيح المطلوب. أراد ياسر مدخلي إيهامنا بان ما يجري من الاحداث في هذه المسرحية انما يجري في ذهن (الكاتب) من دون ان يقدم لنا بعض التفاصيل المهمة أو الحركات الدرامية التي تعزز هذه الصورة بما يجعلها أكثر وضوحا لمتلقي النص في حالة القراءة، والعرض في حالة التمثيل، وتوكيل هذه المهمة الى من يتصدى لاخراج المسرحية.
في المشهد الحواري الصائت الذي جاء بعد اظلام تام حدد ياسر مدخلي مفهوم الشخصيتين للحرية انطلاقا من بيئة، وثقافة كل منهما. فالثاني يرى ان الحرية رهن بسقوط التمثال، وأن سقوطه يعني استعادة الناس لحرياتهم على الرغم من اننا لا نعرف ما علاقة التمثال بالحرية، أو ما علاقة التمثال بالناس الذين يمثلهم (الأول) فنحن نفترض اننا لا نعرف بقصة التمثال وسقوطه، أو اننا نطلع عليها الان من خلال هذا النص وهذا افتراض مقبول. أما الثاني فليس له ما يحدد شكل الحرية لأنها لم ترد في مفردات حياته السابقة كالأكل، والشرب، والبيع، والشراء وهذه اشارة ذكية الى الكيفية التي على وفقها شيّأت الحرية من قبل قوى ظلامية جائرة، عملت على جعل الناس في منأى عن مطاليبهم الجوهرية.
وبعد اظلام آخر يقدم لنا مدخلي مشهدا صامتا على هيئة ملاحظة تقول:
"تعذيب المعتقل وكسر ساقيه ووجهه مغطى."
ليشير بعدها وعبر حوار صائت الى ما أصاب الأول الذي بدأ المشهد بتأوهه، وشعوره المتفاقم بالألم. في هذا المشهد ثمة استنتاج مهم يرد على لسان (الأول) في الجملةالأخيرة حيث يقول:  
"الأول : هل تفكر بالرحيل؟؟ جدير بك ان تفعل فالحياة هنا لا تطاق لمن يعشق المكان.. فكيف بمن احتله..
الثاني : اصمت."
هكذا وللمرة الأولى تتضح لنا حالة الاحتلال التي جاءت متأخرة في النص لتلقي الأضواء على ما سبق من مطبات وخفايا ظلت غامضة بشكل مقصود أوربما بشكل غير مقصود.
في المشهدالأخير يظهر (الكاتب) ثالثة ليقول جملته الختامية:
"لليمام منزل يضيق به ولكن حبه له يشعره وكأن السماء جزء منه..الحياة الكريمة شعور لا نملك حاسته.." 
ومن خلال هذا الظهور الأخير يتأكد لنا أن اللعبة المسرحية انما بنيت على عرض ما جادت به ذهنية (الكاتب)، الذي تماهى مع ما ادخرته الذهنية الفعالة، والمتقدة لكاتب النص المسرحي ياسر مدخلي.   
واذا كان لا بد من قول أخير بحق النص فانه من دواعي الفخر أن نقول إنه نص استقرأ الظرف العربي بوجه عام، والعراقي بوجه خاص، واجترح ما ستؤول اليه الأمور في قادم الأيام فضلا عن اشتغاله على التجريبية كمرتكز اساسي من مرتكزات النص المسرحي المحدث. 
 
* ناقد ومسرحي من العراق مقيم في استراليا.